من العبارات التي اعتدنا سماعها تتردد على ألسنة كثيرين من الطلاب العرب وأحياناً على ألسنة بعض مدرّسيهم أن اللغة العربية واحدة من أصعب اللغات في العالم ولكنها، في الوقت نفسه، من أجمل اللغات، بل أجملها على الإطلاق في نظر البعض. وقد انعكس هذان الاعتقادان بوضوح في دراسة أُجريت ضمن تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها الذي أصدرته وزارة الثقافة والشباب في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2021، وارتكزت على استبيان تم فيه استطلاع آراء 5268 طالبة وطالباً جامعياً في ستة عشر بلداً عربياً حول قضايا تتصل باللغة العربية وواقعها. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن نسبة 74% من المشاركين "يوافقون بقوة" أو "يوافقون" على أن اللغة العربية صعبة مقارنةً بغيرها من اللغات التي يعرفونها، ولكنهم، من جهة أخرى، يعتقدون بنسبة 87% أن اللغة العربية هي أجمل اللغات في العالم. وقد تعزّزت نتائج هذا الاستبيان بنتائج دراسة أُجريت في لبنان مؤخراً واستطلعت آراء 760 طالبة وطالباً في اثنتين من الجامعات اللبنانية وكشفت أن نسبة 85% من المشاركين يعتبرون العربية صعبة مقارنةً باللغات الأخرى التي يعرفونها، وأن 78% منهم يعتقدون بأنها "أجمل اللغات".
هذه النتائج تدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب التي تجعل معظم طلابنا الجامعيين يشعرون بصعوبة العربية، وهي اللغة التي قضوا في دراستها في المدرسة سنوات طويلة، والتي يتعرض لها أكثرهم بشكل مستمر في بيئاتهم ومجتمعاتهم، ويستخدمونها بتنوعاتها المحكية في البيت للتواصل مع أهلهم وزملائهم —كما دلّلت نتائج الاستبيان--. كما تدفعني، بوصفي أستاذاً للعربية للناطقين بغيرها، إلى مقارنة هذا الاعتقاد بصعوبة العربية بما لاحظته أنا وزملائي في المجال، وخاصة في العقدين الأخيرين، من تزايد قدرة كثير من متعلمي العربية من غير الناطقين بها على بلوغ مستويات عالية من الكفاءة في اللغة بمستوياتها المختلفة من فصحى ومحكية بعد سنوات قليلة من الدراسة في المرحلة الجامعية مصحوبة بالدراسة في بلد عربي لعام واحد، وعلى استخدام العربية بطلاقة وثقة في ميادين عملهم الأكاديمية والمهنية رغم أن معظمهم لم ينشأوا في بيئة اللغة وثقافتها.
إن الاعتقاد بصعوبة اللغة، أي لغة، هو شعور ذاتي يختلف من شخص لآخر وتسهم في تشكيله عوامل عدة منها الحافز الداخلي الدافع إلى التعلم، والوقت المتاح له، ودرجة الانخراط الفاعل فيه، والبيئة التي يجري فيها التعلم، ومدى الراحة النفسية التي يشعر بها المتعلمون، ودرجة الثقة التي يمنحهم إياها المعلمون. وإذا كان من الطبيعي أن يكون لدى بعض الطلاب شعور بصعوبة العربية شأنها في ذلك شأن المواد الدراسية الأخرى التي قد يجدها البعض سهلة ويجدها البعض الآخر صعبة، فإن ما يثير الدهشة والاستغراب هنا هو غلبة هذا الاعتقاد القوي بصعوبة العربية على أذهان الكثيرين من الطلاب العرب.
هذا الإحساس بصعوبة اللغة العربية لدى الكثيرين من بناتنا وأبنائنا لم يأتِ من فراغ، وهو لا يمثّل ظاهرة طارئة سبَّبها العصر الذي نعيشه، وليس مقصوراً على بلاد عربية دون غيرها كما بيّن التقرير، وليس سببه شباب هذا الجيل كما يزعم البعض ممن يلقون اللوم على هؤلاء الشباب بحجة أنهم لا يحبون العربية ولكن يحبون اللغات الأخرى ويظهرون اهتماماً أكبر بتعلمها واستخدامها. هذا الزعم غير صحيح، وهو لا ينطبق على غالبية الطلاب كما أظهر تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها الذي أعرب فيه معظم المشاركين عن حبهم للعربية واعتزازهم بها كمُعَبِّر عن شخصيتهم وهويتهم وعن رغبتهم في تعليم العربية لأولادهم في المستقبل.
هذا الاعتقاد بصعوبة العربية بين الطلاب يمثّل، في تقديري، نتيجة طبيعية لكثير من المقاربات والممارسات المرتبطة بتعليم العربية والتي أدّت بمناهج العربية في كثير من البلدان، وعن وعي أو لا وعي، إلى "تصعيب" اللغة العربية في عيون المتعلمين عبر التمسك بمقاربات أخفقت إلى حد كبير في مجاراة النظريات الحديثة في تعلم اللغات، وفي تحويلها إلى ممارسات تعليمية تركز على المتعلمين وواقعهم واهتماماتهم، وفي توفير تجارب ومواد تعليمية وثيقة الصلة بحياتهم لأن هذه المناهج ما زالت تصرّ على "حشر" التراث الأدبي العربي الواسع والمعارف اللغوية بنحوها وصرفها وتعقيدات الإعراب فيها في كافة مراحل التعليم المدرسي دون التركيز على الانتقاء والاختيار وفقاً لما طرأ على العربية المعاصرة من تغيرات وتطورات، ودون الاهتمام بكيفية ربط هذا التراث والمعارف بحياة المتعلمين. كذلك أخفقت هذه المقاربات في تقديم النحو بشكل وظيفي يركز على المهام والوظائف اللغوية وما يحتاجه الطلاب من مفردات وتراكيب لأداء هذه الوظائف والمهام وما زالت تتمسك بتقديم النحو ضمن أبوابه وأشكاله التقليدية بشكل حَوَّل النحو إلى "بُعبُع" مخيف في عيون كثير من المتعلمين.
كذلك فإن ما يعمّق الشعور بصعوبة العربية هو التركيز على أسلوب التلقين، وعدم الاهتمام بخلق فضاءات للعمل التعاوني بين الطلاب داخل الصف، والتركيز على مفهوم "الخطأ" وتصيّد الأخطاء بشكل يجعل الطلاب يقللون من الكلام خوفاً من الوقوع في الخطأ. يُضاف إلى هذا ما نراه من إمعان في إقامة الحواجز بين المعرفة اللغوية التي يحضرها الطلاب معهم من محكياتهم وفي مقاربة تعليم الفصحى وكأنها لغة أجنبية منقطعة الصلة عن العربيات المحكية التي يتقنها الطلاب والتي يمكن لها أن تُوظَّف وتُستَثمَر كسقالة تعليمية مهمة في عملية بناء مهارات الطلاب في العربية الفصحى إذا ما ركزنا على المشتَرَك بين الفصحى والمحكيات العربية ضمن إطارٍ يرى في اللغة العربية بتنوعاتها وتفرعاتها لغة واحدة تمثل فسيفساء جميلة بتنوعها وتعددها .
ومما يسهم في تعزيز الاعتقاد بصعوبة العربية أيضاً ممارسات الأهل في بعض المجتمعات العربية الذين يريدون لبناتهم وأبنائهم أن يطوروا كفاءاتهم في اللغات الأجنبية فيحرصون على الكلام معهم بالأجنبية انطلاقاً من أن "العربي ما بيفيد" على حد تعبير زياد الرحباني. ومثل هذه الممارسات من الأهل تساهم في تعميق الاحساس بغربة الأولاد عن لغتهم والانقطاع عنها وهم لا يرون من أهلهم اهتماماً بها وباستخدامها للتواصل معهم والقراءة بها والاستمتاع بمشاهدة برامج بالعربية في سياقات خارج نطاق الصف.
لقد تضافرت هذه المقاربات والممارسات لتخلق في نفوس الكثيرين من الطلاب شعوراً بصعوبة العربية وبالعجز أمامها، وبأنها لغة ضعيفة الصلة بواقعهم، لغة تعيش في الماضي ولا تفتح لهم أبواب الحاضر والمستقبل الأكاديمي والمهني، لغة نحبها ونعتبرها أجمل لغات الدنيا وننظر إليها كتحفة جميلة نضعها في الصالونات ونتأمل جمالها وغناها دون أن نستخدمها لأننا نخشى عليها أن تنكسر إذا استخدمناها.
وقد تولّد عن هذا الشعور بصعوبة العربية خوف منها واحساس بعدم الثقة والراحة في استخدامها لدى نسبة ملحوظة من الطلاب. وهذا الخوف يدفعهم، عند الالتحاق بالجامعة، إلى محاولة التهرب من مساقات اللغة العربية--إن أمكنهم ذلك-- لأنهم لا يريدون استعادة تجربة دراسة العربية في المدرسة خاصةً وأن كثيراً من مساقات العربية في التعليم الجامعي تعيد انتاج نماذج المدرسة وقوالبها وأشكالها التلقينية دون التركيز على تطوير مهارات الاستكشاف والتفكير الناقد المتأمل من خلال اللغة ودون العمل على ربط اللغة العربية بسياقات البحث العلمي والمهام الوظيفية والمهنية التي ترتبط اللغة العربية بالكثير منها في الحياة العملية.
لا شك في أن تعلم أي لغة مثل اللغة العربية التي تتميز بتاريخ طويل وتراث غني سيكون صعباً إذا حاولنا حشر تاريخها وتراثها في المناهج بالشكل الذي نراه حالياً والذي لم يعد صالحاً لتطوير مهارات المتعلمين في القرن الحادي والعشرين. والمطلوب اليوم هو رؤية جديدة لمناهج العربية تركز على ربط اللغة بالحياة لتحقيق أهداف المتعلمين. ومثل هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا بدأنا العمل بجد على تكوين أجيال جديدة من مدرّسات ومدرّسي العربية المؤمنين بقدرة الطلاب على تعلم العربية والقادرين على خلق أجواء إيجابية وتطوير مواد شيقة وممتعة تتيح للعربية منافسة اللغات الأجنبية في جذب الطلاب إليها. وما يوفر للغة العربية ميزة في هذا المجال هو أنها تخوض هذه المنافسة على أرضها وعلى ملعبها. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى والإشادة بالجهود التي تُبذل في عدد من البلدان العربية لتطوير مناهج ورؤى متنورة لتعليم العربية وإلى الإيجابيات التي تحققت بفعل هذه الجهود. ما نحتاجه اليوم هو دفع أكبر لنشر هذه الرؤى والمناهج سعياً لتحقيق التغيير وخلق أجيال من الطلاب الواثقين بلغتهم وبقدراتهم فيها.